شاهدت كل الأفلام المبرمجة في اطار مسابقة الفيلم الطويل ، وهي مشاهدة أولى لكل فيلم من هذه الأفلام الاثنى والعشرون . ومن هذه المشاهدات الأولية خرجت بمجموعة من الانطباعات أجملها فيما يلي :
أولا ، ستة أفلام طويلة فقط ، في نظري ، تميزت في كتابتها السينمائية بالصدق وبنوع من التكامل والانسجام بين عناصر التعبير الفيلمي فيها من اخراج وتشخيص ومونطاج وتصوير وصوت وموسيقى وملابس ... وغير ذلك ، الشيء الذي منحها قوة ما شدت انتباه المتلقي من بداية الفيلم الى نهايته وجنبته الشعور بالملل . ولعل القاسم المشترك بين هذه الأفلام الستة هو أن مخرجيها (القيدوم حميد الزوغي والشبان محمد أمين بنعمراوي وهشام عيوش وليلى المراكشي وهشام العسري ومحمد البدوي ) مثقفون ولهم تكوين سينمائي رصين الى حد ما ويحسنون الدفاع عن أفلامهم وتصوراتهم واختياراتهم الجمالية والفكرية . ومما ساهم في جودة منتوجهم على المستوى التقني انفتاحهم على الخبرة الأجنبية واستعانتهم بدرجات متفاوتة بتقنيين أروبيين على مستويات الصورة والصوت والمونطاج والموسيقى التصويرية بشكل أساسي . أما على مستوى المضامين فالملاحظ وجود تنوع وتجديد في التيمات ، فمن النبش في تاريخ مناجم الفوسفاط بالمغرب للوقوف على الارهاصات الأولية لنشأة الحركة النقابية في وسط العمال وما صاحب ذلك من نضالات وتضحيات وصراعات مع المستعمر الفرنسي ابان النصف الأول من القرن 20 (فيلم " بولنوار " لحميد الزوغي) ، الى الربط بين احتجاجات حركة 20 فبراير 2011 واعتقالات اضرابات سنة 1981 الشهيرة من خلال التركيز على شخصية " مجهول " التي أداها باقتدار ملحوظ الممثل حسن باديدة (فيلم " هم الكلاب " لهشام العسري)، مرورا بالصراعات العائلية بين الأم والأخوات الثلاث داخل أسرة بورجوازية طنجاوية مباشرة بعد وفاة الأب وما انكشف من أسرار لحظة الجنازة (فيلم " روك القصبة " لليلى المراكشي) أو بالحب المستحيل بين أجنبية ورجل ريفي متزوج وما ترتب عن هذا الحب من تدمير له ولأسرته (فيلم " سليمان " لمحمد البدوي) أو بالمعاناة النفسية لطفل لقيط وعنيف يصرف ما يحس به من فراغ عاطفي على شكل سلوكات عدوانية تجاه كل ما يحيط به خصوصا بعد أن أخبرته والدته في السجن أن له أبا . اصطحبه هذا الأخير للعيش معه رفقة جده وجدته ، وبعد صراع مرير بدأت بوادر الانفراج بين الابن وأبيه وجديه تلوح في الأفق (فيلم " حمى " لهشام عيوش) أو بالتركيز على جوانب من السيرة الذاتية للمخرج وهو طفل في العاشرة من عمره ومعاناته مع عمه المتسلط والمدمن على معاقرة الخمر والنساء، بعد أن تزوجت أمه الأرملة وسافرت مع زوجها الى بلجيكا ، وارتباطه بالجارة الاسبانية كارمن التي اكتشف الفرجة السينمائية عن طريقها في منتصف السبعينات من القرن الماضي (فيلم " وداعا كارمن " لمحمد أمين بنعمراوي) .
ثانيا ، نصف الأفلام الطويلة لم تكن في مستوى المشاركة في المسابقة الرسمية وذلك لاعتبارات عدة من بينها : ضعف تماسك كتابتها السيناريستية واعتمادها للربط بين أحداث القصص التي تحكيها على عنصر الصدفة (فيلمي " سارة " لسعيد الناصري و " تاونزا " لمليكة المنوك نموذجان) ، حضور المباشرة أحيانا في حوارها الطاغي على باقي عناصر الحكي (فيلم " خلف الأبواب المغلقة " نموذجا) ، سذاجة القصص المحكاة أحيانا أو بدائية طرق الحكي التي جعلتنا أمام أفلام أكثر رداءة من الأفلام البوليودية والمصرية السائدة تجاريا (فيلم " حب الرمان " لعبد الله فركوس نموذجا ) ، تغليب الحوار على الصورة وكأننا بصدد " أفلام " أو تمثيليات اذاعية مع التمطيط والايقاع البطيء الذي يبعث أحيانا على النوم (فيلم " أراي الظلمة " لأحمد بايدو نموذجا) ، حضور الطلاسيم والهذيان والضبابية رغم المجهودات المبذولة في التشخيص والتصوير وجوانب أخرى (فيلم " تصنت لعظامك " للتيجاني الشريكي " ) .
ثالثا ، هناك أفلام قليلة أخرى مقبولة اجمالا لأن فيها مجهودا ملحوظا على مستويات عدة كالتشخيص والموسيقى التصويرية مثلا (فيلم " الصوت الخفي " لكمال كمال ) أو التصوير والتشخيص والانتقال بسلاسة بين الحاضر والماضي ( فيلم " سرير الأسرار " للجيلالي فرحاتي ) أو توابل صناعة أفلام الحركة وما يرتبط بها من مؤثرات (فيلم " كان يا ما كان " لسعيد سي الناصري) أو غير ذلك ، الا أن ما لم تستطع الوصول اليه هو ذلك الانسجام بين مضمونها ومختلف عناصرها التعبيرية الذي يتمخض عنه عمل متكامل (شكلا ومحتوى) يمتع العين والأذن ويخاطب العقل والوجدان ويحرك المشاعر في آن واحد .
اننا لازلنا ننتظر من مخرجينا أعمالا ناضجة وغير متسرعة في انجازها ، أعمالا نجد فيها وفي مواضيعها أنفسنا وجوانب من تاريخنا القريب والبعيد أو من واقعنا الحالي الذي يحبل بالظواهر والقصص والوقائع الاجتماعية والسياسية والفنية وغيرها . ليس المهم أن تحكى لنا حكايات متنوعة ومختلفة فحسب وانما الأهم هو أن تحكى لنا هذه الحكايات بجمالية وحرفية ورؤية واضحة للانسان والعالم.